كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والمعنى ومن يرد الله كفره وضلالته فلن يقدر أحد على دفع ذلك. ثم أكد هذا بقوله: {أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم} وفيه دليل على أنه تعالى لا يريد إسلام الكافر وأنه لم يطهر قلبه من الشك والشرك ولو فعل لآمن. والمعتزلة فسروا الفتنة بالعذاب كقوله: {يوم هم على النار يفتنون} [الذاريات: 13] أو بالفضيحة أو بالإضلال أي تسميته ضالًا، أو المراد ومن يرد الله اختباره فيما يبتليه من التكاليف ثم إنه يتركها ولا يقوم بأدائها {فلن تملك له من الله} ثوابًا ولا نفعًا. ثم قال: {أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم} بالألطاف لأنه تعالى علم أنه لا فائدة في تلك الألطاف لأنها لا تنجع في قولهم، أو يطهر قلوبهم من الحرج والغم والوحشة الحالة على كفره، أو هو استعارة عن سقوط وقعة عند الله تعالى وأنه غير ملتفت إليه بسبب قبح أفعاله وسوء أعماله. ثم وصف اليهود بقوله: {سماعون للكذب أكالون للسحت} وهو الحرام وكل ما لا يحل كسبه من سحته وأسحته أي استأصله لأنه مسحوت البركة، ومال مسحوت أي مذهب. قال الليث: السحت حرام يحصل منه العار وذلك أنه يسحت فضيلة الإنسان ويستأصلها. ورجل مسحوت المعدة إذا كان أكولًا لا يلفى إلاّ جائعًا أبدًا كأنه يستأصل كل ما يصل إليه من الطعام. والسحت الرشوة في الحكم ومهر البغي وعسب الفحل وكسب الحجام وثمن الكلب وثمن الخمر وثمن الميتة وحلوان الكاهن والاستكساب في المعصية روي ذلك عن علي رضي الله عنه وعمر عثمان وابن عباس وأبي هريرة ومجاهد، وزاد بعضهم ونقص بعضهم وكل ذلك يرجع إلى الحرام الخسيس الذي لا يكون فيه بركة ويكون فيه عار بحيث يخفيه صاحبه لا محالة. قال الحسن: كان الحاكم في بني إسرائيل إذا أتاه من كان مبطلًا في دعواه برشوة سمع كلامه ولا يلتفت إلى خصمه فكان يسمع الكذب ويأكل السحت. وقيل: كان فقراؤهم يأخذون من أغنيائهم مالًا ليقيموا على ما هم عليه من اليهودية فكانوا يسمعون أكاذيب الأغنياء ويأكلون السحت. وقيل: سماعون للأكاذيب التي كانوا ينسبونها إلى التوراة، أكالون للربا لقوله تعالى: {وأخذهم الربا} [النساء: 161] {فإن جاؤك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم} خيره الله تعالى بين الحكم والإعراض. فقيل: إن هذا الخبر مختص بالمعاهدين الذين لا ذمة لهم.
وقيل: إنه في أمر خاص وهو رجم المحصن قاله ابن عباس والحسن ومجاهد والزهري: وقيل: في قتيل قتل من اليهود في بني قريظة والنضير وكان في بني النضير شرف وكانت ديتهم كاملة وفي قريظة نصف دية، فتحاكموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجعل الدية سواء. وعن النخعي والشعبي وقتادة وعطاء وأبي بكر الأصم وأبي مسلم أن الآية عامة في كل ما جاء من الكفار، وأن الحكم ثابت في سائر الأحكام غير منسوخ. وعن ابن عباس والحسن ومجاهد وعكرمة وهو مذهب الشافعي أن هذا التخيير منسوخ في في حق غير المعاهدين بقوله تعالى: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله} [المائدة: 49] فيجب على حاكم المسلمين أن يحكم بين أهل الذمة إذا تحاكموا إليه لأن في إمضاء حكم الإسلام عليهم صغارًا لهم. وأهل الحجاز بعضهم لا يرون إقامة الحدود عليهم يذهبون إلى أنهم قد صولحوا على شركهم وهو أعظم من الحدود ويقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم رجم اليهوديين قبل نزول الجزية، ثم إنهم كانوا لا يتحاكمون إليه إلاّ لطلب الأسهل والأخف كالجلد مكان الرجم، فإذا أعرض صلى الله عليه وسلم عنهم وأبى الحكومة بينهم شق عليهم وعادوا فآمنه الله بقوله: {وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئًا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط} بالعدل والاحتياط كما حكمت في الرجم {وكيف يحكمونك} تعجيب من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم من تحكيمهم لوجوه منها: عدولهم عن حكم كتابهم، ومنها رجوعهم إلى حكم من كانوا يعتقدونه مبطلًا، ومنها إعراضهم عن حكمه بعد أن حكموه وهذا غاية الجهالة ونهاية العناد. والواو في قوله: {وعندهم} للحال من التحكيم والعامل ما في الاستفهام من التعجيب. أما قوله: {فيها حكم الله} فإما أن ينتصب حالًا من التوراة على ضعف وهي مبتدأ خبره {عندهم} وإما أن يرتفع خبرًا عنها والتقدير وعندهم التوراة ناطقة بحكم الله فيكون {عندهم} متعلق بالخبر، وإما أن لا يكون له محل ويكون جملة مبينة لأن عندهم ما يغنيهم عن التحكيم كقولك: عندك زيد ينصحك ويشير عليك بالصواب فما تصنع بغيره. وأنثت التوراة لما فيها من صورة تاء التأنيث. {ثم يتولون} عطف على {يحكمونك} و«ثم» لتراخي الرتبة أي ثم يعرضون من بعد تحكيمك عن حكمك الموافق لما في كتابهم {وما أولئك بالمؤمنين} إخبار بأنهم لا يؤمنون أبدًا، أو المراد أنهم غير مؤمنين بكتابهم كما يدعون، أو المراد أنهم غير كاملين في الإيمان على سبيل التهكم بهم.
ثم رغب اليهود في أن يكونوا كمتقدميهم من أنبيائهم ومسلمي أحبارهم فقال: {إنا أنزلنا التوراة فيها هدى} ونور العطف يقتضي التغاير فقيل: الهدى بيان الأحكام والشرائع والنور بيان التوحيد والنبوة والمعاد. وقال الزجاج: الهدى بيان الحكم الذي جاؤوا يستفتون فيه، والنور بيان أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم حق.
وقيل: فيها هدى يهدي للحق والعدل، ونور يبين ما استبهم من الأحكام، فهما عبارتان عن معبر واحد، وقد يستدل بالآية على أن شرع من قبلنا يلزمنا لأن الهدى والنور لابد أن يكون أحدهما يتعلق بالفروع والآخر بالأصول وإلا كان تكرارًا. وأيضًا إنها نزلت في الرجم ومورد الآية لابد أن يكون داخلًا فيها سواء قلنا إن غيره داخل أو خارج. ويمكن أن يجاب بأن التكرار بعبارتين غير محذور أو بأن في الكلام تقديمًا وتأخيرًا والمراد فيها هدى ونور للذين هادوا يحكم بها النبيون. أما قوله: {الذين أسلموا} فأورد عليه أن كل نبي مسلم فما الفائدة في هذا الوصف؟ وأجيب بأنها صفة جارية على سبيل المدح لا التوضيح والكشف، وفيه تعريض باليهود أنهم بعداء عن ملة الإسلام التي هي دين الأنبياء قديمًا وحديثًا لأن غرض الأنبياء الانقياد لتكاليف الله وغرضكم من ادعاء الحكم بالتوارة أخذ الرشا من العوام، فالفريقان متباينان ولهذا أردفه بقوله: {للذين هادوا} أي يحكمون لأجلهم. قال في الكشاف: قوله تعالى: {الذين أسلموا للذين هادوا} مناد على أن اليهود بمعزل عن الإسلام. قلت: هذا بناء على أن صفة الحاكمين يلزم أن تكون مغايرة لصفة المحكومين. ولقائل أن يقول: بعد تسليم ذلك إنه لم لا يكفي مغايرة العام للخاص؟ وقال الحسن والزهري وعكرمة وقتادة والسدي: المراد بالنبيين هو محمد صلى الله عليه وسلم كقوله: {إن إبراهيم كان أمة} [النحل: 120] لأنه اجتمع فيه من الخصال ما كانت مفرقة في الأنبياء: وقيل: أسلموا أي انقادوا لحكم التوراة. فمن الأنبياء من لم تكن شريعتهم شريعة موسى. والربانيون قد مر تفسيره في آل عمران. والأحبار عن ابن عباس هم الفقهاء، الواحد حبر بالفتح من قولهم: فلان حسن الحبر والسبر إذا كان جميلًا حسن الهيئة، أو حبر بالكسر من ذلك أيضًا لقولهم: حسن الحبر بالكسر أيضًا. وفي الحديث: «يخرج رجل من النار قد ذهب حبره وسبره» أي جماله وبهاؤه، وتحبير الخط والشعر تحسينه أو من هذا الحبر الذي يكتب به لكون العالم صاحب كتب. قاله الفراء والكسائي وأبو عبيدة. ثم إن ذكر الربانيين بعد النبيين يدل على أنهم أعلى حالًا من الأحبار فيشبه أن يكون الربانيون كالمجتهدين والأحبار كآحاد العلماء. وقوله: {بما استحفظوا} إما أن يكون من صلة {يحكم} أي يحكم بها الربانيون والأحبار بسبب ما استحفظوا، أو يكون من صلة الأحبار أي العلماء بما استحفظوا بام سألهم أنبياؤهم حفظه. و«من» في {من كتاب الله} للتبيين. وقد أخذ الله تعالى على العلماء أن يحفظوا كتابه من وجهين: أحدهما أن يحفظوه في صدورهم ويدرسوه بألسنتهم، والثاني أن لا يضيعوا أحكامه ولا يهملوا شرائعه وكانوا أي هؤلاء النبيون والربانيون والأحبار عليه على أن كل ما جاء في التوراة حق من عند الله شهداء رقباء لئلا يبدل، ويحتمل أن يعود ضمير {استحفظوا} إلى النبيين وغيرهم جميعًا والاستحفاظ من الله أي كلفهم الله حفظه وأن يكونوا عليه شهداء.
ثم نهى اليهود المعاصرين عن التحريف لرهبة فقال: {فلا تخشوا الناس واخشوني} وعن التغيير لرغبة فقال: {ولا تشتروا بآياتي ثمنًا قليلًا} وهو الرشوة وابتغاء الجاه. ثم عمم الحكم فقال: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} احتجت الخوارج بالآية على أن كل من عصى الله فهو كافر. وللمفسرين في جوابهم وجوه: الأول انها مختصة باليهود وردّ بأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ولا ريب أن لفظ «من» في معرض الشرط للعموم فلا وجه لتقدير ومن لم يحكم من هؤلاء المذكورين الذين هم اليهود لأنه زيادة في النص. وقال عطاء: هو كفر دون كفر. وقال طاوس: ليس بكفر الملة ولا كمن يكفر بالله واليوم الآخر. فلعلهما أراد كفران النعمة، وضعف بأن الكافر إذا أطلق يراد به الكافر في الدين. وقال ابن الأنباري: المراد أنه يضاهي الكافر لأنه فعل فعلًا مثل فعل الكافر وزيف بأنه عدول عن الظاهر. وقال عبد العزيز بن يحيى الكناني: معناه من أتى بضد حكم الله تعالى في كل ما أنزل فيخرج الفاسق لأنه في الاعتقاد والإقرار موافق وإن كان في العمل مخالفًا. واعترض بأن سبب النزول يخرج حينئذ لأنه نزل في مخالفة اليهود في الرجم فقط، ويمكن أن يقال: المحرّف داخل في الكل. وقال عكرمة: إنما تتناول الآية من أنكر بقلبه وجحد بلسانه، أما العارف المقر إذا أخل بالعمل فهو حاكم بما أنزل الله تعالى ولكنه تارك فلا تتناوله الآية.
ثم إنه سبحانه لما بيّن أن حكم الزاني المحصن في التوراة هو الرجم واليهود غيروه أراد ان يبين أن نص التوراة هو قتل النفس بالنفس وأنهم بدّلوه حيث فضلوا بني النضير على بني قريظة فقال: {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين} من قرأ المعطوفات كلها بالنصب فظاهر، ومن قرأ ما سوى الأوّل بالرفع فللعطف على محل النفس إذ المعنى وكتبنا عليهم في التوراة النفس بالنفس إما لإجراء {كتبنا} مجرى «قلنا» وإما بطريق الحكاية كقولك: كتبت الحمد لله وقرأت سورة {إن أنزلناه} وإما على سبيل الاستئناف والمعنى على جميع التقادير. فرضنا عليهم فيها أن النفس مقتولة بالنفس إذا قتلتها بغير حق، والعين مفقوأة بالعين، والأنف مجدوع بالأنف، والأذن مصلومة بالأذن، والسن مقلوعة بالسن، والجروح ذات قصاص أي مقاصة. وهذا تعميم للحكم بعد ذكر بعض التفاصيل والمراد منه كل ما يمكن المساواة فيه من الأطراف كالذكر والأنثيين والإليتين والقدمين واليدين، ومن الجراحات المضبوطة كالموضحة مثلًا وهي التي توضح العظم وتبدي وضحة وهو الضوء والبياض، وكذا منافع الأعضاء والأطراف كالسمع والبصر والبطش.
فأما الذي لا يمكن القصاص فيه كرض في لحم أو كسر في عظم أو خدش وإدماء في جلد ففي ذلك أرش أو حكومة وتفاصيلها في كتب الفقه. {فمن تصدق به فهو كفارة له} الضمير في {به} يعود إلى القصاص وفي {هو} إلى التصدق الدال عليه الفعل. وفي {له} وجهان: أحدهما أنه يعود إلى العافي المتصدق لما روى عبادة بن الصامت ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من تصدق من جسده بشيء كفر الله تعالى عنه بقدره من ذنوبه» وعن عبد الله بن عمرو: «يهدم عنه من ذنوبه بقدر ما تصدق به» والثاني أنه يعود إلى الجاني المعفو عنه أي لا يؤاخذه الله تعالى بعد ذلك العفو، وأما العافي فأجره على الله تعالى: {وقفينا على آثارهم} أي على آثار النبيين {بعيسى ابن مريم} أي عقبناهم به، فتعديته إلى المفعول الثاني بالباء. وقوله: {على آثارهم} يسدّ مسد الأول لأنه إذا قفي به على أثره فقد قفي به إياه {مصدّقًا لما بين يديه} أي مقرًا بأن التوراة كتاب منزل من عند الله تعالى وأنه كان حقًا واجب العمل به قبل ورود ناسخه وهو الإنجيل المصدق أيضًا لكونه مبشرًا بمبعث محمد صلى الله عليه وسلم كالتوراة. وأما النور فبيان الأحكام الشرعية وتفاصيل التكاليف، والهدى الأول أصول الديانات كالتوحيد والنبوات والمعاد، والهدى الثاني اشتماله على البشارة بمجيء محمد صلى الله عليه وسلم لأن ذلك سبب اهتداء الناس إلى نبوته، واشتمال الإنجيل على المواعظ والنصائح والزواجر ظاهر وخص الجميع بالمتقين لأنهم هم المنتفعون بذلك. ومن قرأ {وليحكم} بالجزم فإما إخبار عما قيل لهم في ذلك الوقت من الحكم بما تضمنه الإنجيل أي قلنا لهم ليحكموا بما فيه، وإما أمر مستأنف للنصارى بالحكم بما فيه كتابهم من الدلائل الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، أو مما لم يصر منسوخًا بالقرآن. ومن قرأ بالنصب فلأنه علة فعل محذوف يدل عليه ما تقدمه أي ولأجل حكمهم بما فيه آتيناهم كتابهم، وعلى هذا يجوز أن يكون هدى وموعظة أيضًا غرضين معطوفين للحكم والله أعلم. أما قوله: {الكافرون} {الظالمون} {الفاسقون} فللمفسرين فيه خلاف. قال القفال: هو كقولك من أطاع الله فهو المؤمن من أطاع الله فهو المتقي، لأن كل ذلك أوصاف مختلفة حاصلة لموصوف واحد، فهذه كلها نزلت في الكفار. وقال آخرون: الأول من الجاحد، والثاني والثالث في المقر التارك. وقال الأصم: الأول والثاني في اليهود، والثالث في النصارى. اهـ.